لاشك أنّه يجب علينا تجاه نعل " سيّدنا صلى الله عليه وسلم " حقوقا ، واجبة ونافلة ، كما يجب على العبيد مع
ساداتهم ، فإنّ لكلّ ما يتعلق بالسّادة شأن عند مواليهم وأحبابهم ، ولاسيّما
نعالهم ؛ لكونها الأكثر نزعا ، والأصغر شأنا ، ولذلك نرى الخدّام يسارعون في
خدمتها ، إظهارا للعبودية والتذلّل والموالاة .
وهذا ما أدرجت عليه
آدبنا الشّرعيّة ، في معاملتنا لذوي الفضل والشرف ، وكما هو معلوم من أحوال طلاب
العلم والمريدين ، سلفا وخلفا.
وإذا كان الأمر كذلك
، فإنّ نعل سيّدنا ومولانا صلى الله عليه وسلم أولى بذلك ، لما له
علينا من منّة ، ولما له عند ربّه من مكانة ، وإنّ تعلقنا بها لشاهد حال ، على
إخلاصنا في التّعلق بالحبيب صلى الله عليه
وسلم .
وسنعرّج هنا على بعض
مايجب علينا من مقامات لها :
1 ((مقام العشق))
فلقد اتّفق أرباب
الوجدان ، من أصحاب الجنون والأشجان ، أنّ من أحب أحدا ، أحبّ كلّ ما يتعلّق به ،
ولا سيّما إن كان ذاك الشيء يدلّ عليه لزوما ، كلباسه ومتاعه وأبناءه ..
وإنّ قصّة مجنون ليلى
مع الكلب لأغلظ حجّة على ذلك ، حينما رأى كلبا أسودا مدنّسا بالوحل ، فهرع إليه
يقبله ويحسن إليه ، فلمّا عذلوه ، قال : رأيته ذات مرّة في حيّ ليلى ، فمافتنته
عين الكلب ، ولكن العين التي رأت الكلب ، أو الغبار الّذي علق به ، من الأرض التي
وطأتها نعال ليلى ، وهو الذي يقول :
أمر عـــلى الديار ديار ليلى فأقبل ذا الجدارا وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا
ولقد أحسن من أخذ هذا
المعنى ، فقال :
وما حب النّعال شغفن
قلبي ولكن حبّ من لبس النّعالا
فلذا يجب عليك أيها
المحب ، يامن تسعى إلى وصال حبيبك صلى الله عليه وسلم أن تتولّه
بنعاله وتهيم ، فذلك أوفى وأشفى ، لاسيّما في حالة الفراق ، فعلّل بها فؤادك
العليل ، حتّى تزول حجب الفصال ، ومن لم يجد ماء تيمّم بالترب .
بل حتّى ولو كنت في
حالة اتصال ، فأكّد حبّك لسيّادته صلى الله عليه وسلم بلثم شسعه ، ولعق شراكه ، كيف وأنّ الأشواق تزداد
لهيبا بالتّلاق .
وكنت قد نصحت إخواني
من المتعلّقين ، إذا جمعتهم بالحبيبصلى الله عليه وسلم مشاهدة ، أن يسارعوا إلى تقبيل نعاله ، وإن أبى
ذلك تنزّلّاصلى الله عليه وسلم .
ومن طلب الدّليل على عشق النّعال الحبيبة ، فقل
له : إنّ الإستدلال للبداهة من السفاهة ، ومتى نصّ الشرع على أنّ الثلاثة أكبر من
الواحد .
وقل لمن أنكر الوجوب : هو ليس واجبا عليك أنت
ياجافي ، بل إنّ لزومه واجب على ذوي القلوب والوجدان ، الذين لا يحتجّون لذوقهم ،
ولا يحتاجون فيه إلى برهان ، أولئك الذين
قال فيهم صلى الله عليه وسلم : " إستفت قلبك
، وإن أفتوك وإن أفتوك وإن أفتوك "
أولا يكفي أنها لامست
الجسد اللّطيف الشريف ، أوليست التي سقيت من عبيق ريحه الأنفح ، ولكن هيهات هيهات
، فلايشمها إلّا المتعلّقون ، ولا يشمها إلّا ذو حظّ عظيم .
فكما ما شمّ قميص سيّدنا
يوسف عليه السلام إلّا أبوه الذي تفانى به غراما ، كذلك الحال في خلعة الحبيب صلى الله عليه وسلم بل هو أشد من ذلك .
هَــذِهِ النّعلُ أينَ خِرْقَــةُ يُـوســفْ فَفُـــؤادٌ لمْ يَنْشَـقِ
الرِّيـحَ يُـوسِفْ
ففؤاد لم ينشق أريج شذاها ، الساري في ذرات
الوجود ، ليؤسف حقا ، ولا غرو من هذا ، فإنّ ريح الجنّة يوجد من مسيرة خمسمائة سنة
، وماهي في التّحقيق إلّا أثر وطئة النّعل الأقدس الأنفس .
وهنا قد حضرتني قصة حقيقة حصلت لأحد
العارفين ، وقد حكاه بعض المحبين من فلسطين ، عجل الله بفرجها آمين ، بجاه سيّدنا
الأمين صلى الله عليه وسلم .
وذلك أنّه كانت هناك تحفة من تراب الحجرة
الشريفة ، عند بعض المحبين ، وكان قد خزنها في بيته ، وبعد مدّة نسي مكانها ، وحصل
أن كان أحد العارفين في ضيافته ، فاتكىء
على مسند من المساند . وفجأة بدأ هذا العارف يمسح دموعه الغزيرة ، ويبكي وكأنه
واقف أمام مقام الحبيب صلى الله عليه وسلم بشكل أثار الحضور ، وظنوه به سقم !.
ثم
قال : يا جماعة أنا أشم في هذا المسند
رائحة الحبيب ؟! هناك رجعت الذاكرة للوراء بصاحب البيت ، وأخذ يستذكر فقام وفتح
المسند ، وإذ به ذلك الأثر اللّطيف .
فاللّهم اشهد أنّنا بعدما ذقنا قطرة من التّعلق
، فرضت علينا مهجنا : التولّه والتذلّل بنعاله وآله صلى الله عليه وسلم ، من دونما تكلف ولا تعلّم ولا احتجاج .
( وصل به)
وإن تقل أنّى لنا بها حتّى نتعلق بها ؟ أقول :
يكفي التّعلق غيبا كما نتعلّق بصاحبها صلى الله عليه وسلم ، وأمّا ذو الوجد فإنّه يهيم حتّى بصورتها أومثالها
، سيّما وإنّ صورتها صارت منشورة مشهورة اليوم ، فدونك إلثم وعانق وتمرّغ ، واتّبع
كلّ مايمليه عليك وجدانك ، إن كنت من العالقين .
وكذلك إنّ عشقها درجات ومعارج ، ولايزال
السالكون يتفانون في ودادها ، حتّى لايشهدونها إلّا هي في الوجود ، ولسان حالهم
يشهد " أن لامحبوب إلّا النّعال " وهكذا إلى أن تنجلي لهم أنوارها من
غياباتها ، فيشهدونها خيالا ، ثمّ يترقون إلى المنام ، ثمّ إلى المثال ، ثمّ إلى
اليقظة وهذا هو الفتح ، ولانهاية للترقي فيها ، كما لانهاية لمدارج كنهها .
وما يدريكم يا ذوي
الجلافة والجفاء ، ما يخالب وجدان أهل التّعلق والولاء ، من أذواق وأحاسيس وشعور ،
والعشق ذو فنون وجنون وجشون ، وإن هذا من
أغربها وأعجبها .
فهم إنّما تعلّقوا من
بعدما شهدوا وعرفوا وذاقوا ، إذ أنّ نظرهم لم يتوقف على الجلد المدبوغ ، بل إلى ما
يكمن في نواتها ، ويسري في ذرّاتها .
ومع كون قدرها في
الوجود ، ما هو إلا أمر حكمي لا عيني ، أي حيثما حل وظهرصلى الله عليه وسلم يتجلى بنزلة نعلوتيّة ، وليست هنالك نعل مخصّصة ،
لازمة لأقدامه المنزهة عن التقييد ، إلّا أنّك إذا تبصرت ياذا السريرة ، بتلك
النّعال المنيرة ، التي تشرفت بخدمته في هذه الدّار ، تراها نورا محضا ، وسرا غضا
.
ومن اليقينيّ عند أهل
الشّهود ، أنّ أنوار الخصوص تبقى تسري في آثارهم ، إلى أن يرث الله الارض ومن
عليها ، ويشهد لذلك قصة سيّدي ابن عربي قدس الله سره
حينما نزل في بعض سياحاته بمغارة ،
فحصل له حال حضور وانجذاب ، فاستكشف عن سرّ ذلك ، فعلم أنّ بعض الأولياء من السّلف
، تعبّد بها ذات مرّة ، فبقيت أنواره طيلة تلك القرون .
إذا كان الحال كذلك ،
فما بال أنوار النيّر الذّاتي صلى الله عليه
وسلم الّتي تسري في آثاره ، أتراها تأفل ، سبحانه وتعالى عما يفترون .
إذا فلنعذر أهل
الغرام والوله بنعاله الوسيمة ، بل لنعذلهم على تقصيرهم عمّا يجب لها من عشق
واشتياق ، ودونك قس على حال المجانين ، بهوى الأمور الدنيّات .
فجلّنا رأى أوسمع ،
إن لم نقل عايش وذاق هذ الحال ، من الخضوع والإشتياق إلى تقبيل نعال من يعشق ،
سواء في المحبّة الربانيّة ، أو العاديّة ، أو الشّهوانيّة .
ولقد كذب في حبّه من
لم يتذلّل بأعتاب أحبابه ، أو يشتاق إلى نيل ذلك ، فإن لم تكن من أهل الهوى فسأل
به خبيرا .
ولنا من قصّة سيّدنا يعقوب عليه السلام في
شفائه بقميص قرّة عينه سيّدنا يوسف عليه السلام، خير دليل وأوثق شاهد ، على
التّعلق بالنّعال الساميّة .
هيهات هيهات ، فذلك قميص سيدنا يوسفعليه السلام،
ولكن هذه نعل مجلى الجمال الذّاتي ، المقدّس عن النّظير ، فيا ترى كيف يكون حال
العاشقين للحبيب صلى الله عليه وسلم مع خلعته هذه .
وانظر إلى الإمام
الشّافعي رحمه الله وهو من هو ، كيف يفعل
مع قميص تلميذه الإمام أحمد رحمه الله ،
وذلك فيما أورده ابن عساكر في تاريخه ، والسّبكي في الطبقات وغيرهم عن الرّبيع
رحمه الله :
إستأذنت شيخي الشافعي ذات مرّة في سفر فقال لي : يا ربيع خذ كتابي هذا
فامض به وسلمه إلى أبي عبد الله ، وائتني بالجواب .
قال الرّبيع فدخلت بغداد ومعي الكتاب ، فصادفت أحمد ابن حنبل في صلاة
الصّبح ، فلمّا انصرف من المحراب سلّمت إليه الكتاب ، وقلت هذا كتاب أخيك الشافعي
من مصر ، فقال لي نظرت فيه ؟ فقلت لا ، فكسر الختم وقرأ وتغرغرت عيناه ، فقلت له :
أيش فيه أبا عبد الله فقال يذكر فيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم
فقال له اكتب إلى أبى عبد الله فاقرأ عليه السلام وقل له إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق
القرآن فلا تجبهم ، فيرفع الله لك علما إلى يوم القيامة .
قال الربيع : فقلت له البشارة يا أبا عبد الله ، فخلع أحد قميصيه الذي
يلي جلده فأعطانيه ، فأخذت الجواب وخرجت إلى مصر وسلمته إلى الشافعي رحمه الله ، فقال أيش الذي أعطاك فقلت قميصه ، فقال الشافعي رحمه الله : ليس نفجعك به ، ولكن بُلَّهُ وادفع إليّ الماء لأتبرك به .